الذكاء الاصطناعي يكشف أسرار الدماغ أثناء المحادثات اليومية

تُعد اللغة واحدة من أكثر القدرات البشرية تعقيدًا، إذ تتطلب تفاعلًا منسقًا بين عدة مناطق في الدماغ لتحويل الأفكار إلى كلمات مفهومة، على مدار العقود الماضية، حاول العلماء فك شفرة هذه العملية من خلال دراسة عناصر اللغة المختلفة مثل الأصوات والقواعد والمعاني، لكن دون وجود نموذج موحد يجمع هذه الجوانب في إطار واحد.

اليوم، بفضل تقاطع علم الأعصاب مع الذكاء الاصطناعي، أصبح بالإمكان رؤية صورة أوضح لهذه العملية، طور فريق من الباحثين نموذجًا يعتمد على الذكاء الاصطناعي لاستكشاف كيفية معالجة الدماغ للكلام خلال المحادثات اليومية، مما قد يفتح آفاقًا جديدة لفهم طبيعة الإدراك البشري.

استخدام الذكاء الاصطناعي لتحليل النشاط الدماغي

قام الباحثون بجمع تسجيلات للمحادثات الطبيعية باستخدام تقنية التخطيط الكهربائي للدماغ (ECoG)، وهي تقنية تتيح تسجيل النشاط العصبي بدقة عالية، بعد ذلك، تم دمج هذه التسجيلات مع نماذج التعلم العميق لإنشاء نظام قادر على التنبؤ بالنشاط العصبي أثناء المحادثات الفعلية.

اعتمدت الدراسة على نموذج الذكاء الاصطناعي Whisper، الذي طورته OpenAI لتحويل الصوت إلى نص بدقة كبيرة، ساعد هذا النموذج في رسم خريطة للنشاط الدماغي خلال المحادثات، متجاوزًا الطرق التقليدية التي تركز على تحليل البنية الصوتية أو النحوية فقط.

يعمل نموذج Whisper بطريقة إحصائية بحتة، حيث يتم تدريبه على ملفات صوتية مصحوبة بنصوص مكتوبة، ليتمكن لاحقًا من التنبؤ بالنصوص الجديدة استنادًا إلى البيانات السابقة. 

اللافت في الدراسة أن النموذج لم يُبرمج مسبقًا بأي قواعد لغوية، لكنه نجح في اكتشاف الهياكل اللغوية بنفسه بعد التدريب، مما يعكس قدرته على التعلم بطريقة تشبه الدماغ البشري.

تفاصيل الدراسة ونتائجها

نُشرت الدراسة في مجلة Nature Human Behaviour، وشملت أربعة مرضى بالصرع كانوا يخضعون لعمليات جراحية لزرع أقطاب كهربائية في الدماغ لأغراض طبية، وافق هؤلاء المرضى على تسجيل محادثاتهم خلال فترة إقامتهم في المستشفى، والتي تراوحت بين عدة أيام وأسبوع، مما أسفر عن أكثر من 100 ساعة من التسجيلات الصوتية.

تم تزويد كل مشارك بعدد يتراوح بين 104 و255 قطبًا كهربائيًا، ما سمح بدراسة دقيقة لكيفية تفاعل مناطق الدماغ المختلفة أثناء التحدث والاستماع. 

كشفت الدراسة أن مناطق معينة في الدماغ ترتبط بمهام لغوية محددة، مثل التلفيف الصدغي العلوي المسؤول عن معالجة المعلومات السمعية، والتلفيف الجبهي السفلي المرتبط بفهم اللغة.

لاحظ الباحثون أن هذه المناطق تنشط بالتتابع، حيث يتم تفعيل المنطقة المسؤولة عن سماع الكلمات قبل المنطقة التي تفسرها، كما لوحظ أن بعض المناطق تنشط أثناء المهام اللغوية رغم عدم كونها متخصصة في ذلك، ما يدعم فرضية أن الدماغ يعتمد على نهج موزع في معالجة اللغة.

الربط بين نماذج الذكاء الاصطناعي ووظائف الدماغ

تم استخدام 80% من التسجيلات الصوتية ونسخها النصية لتدريب نموذج Whisper، بينما خُصصت النسبة المتبقية (20%) لاختبار قدرته على التنبؤ بالنصوص الجديدة، بعد التدريب، حلل الباحثون كيفية استجابة النموذج لهذه التسجيلات، وقارنوا نتائجه بالنشاط الدماغي المسجل لدى المشاركين.

أظهرت الدراسة أن النموذج كان قادرًا على التنبؤ بالنشاط الدماغي المرتبط بالكلام بدقة أكبر من النماذج التقليدية، كما كشفت أن Whisper تعلم تلقائيًا بعض الهياكل اللغوية دون الحاجة إلى برمجتها صراحة، وهو ما يعكس آلية شبيهة بالطريقة التي يكتسب بها الدماغ اللغة.

التحديات والآفاق المستقبلية

يرى ليونهارد شيلباخ من مركز ميونيخ لعلوم الأعصاب أن هذه الدراسة تعد خطوة رائدة في فهم العلاقة بين الذكاء الاصطناعي وعمل الدماغ، لكنها لا تزال بحاجة إلى مزيد من البحث لتحديد مدى التشابه الحقيقي بين آليات المعالجة اللغوية في النماذج الاصطناعية والدماغ البشري.

أما جاسبر بيجوش، الأستاذ في جامعة كاليفورنيا بيركلي، فأكد أن مقارنة الدماغ بالشبكات العصبية الاصطناعية يمثل مجالًا بحثيًا مهمًا، وأوضح أنه إذا تمكنا من فهم كيفية عمل الخلايا العصبية البيولوجية والاصطناعية معًا، فقد نتمكن من تطوير تقنيات جديدة لمحاكاة عمليات الدماغ بدقة أكبر.

أهمية الدراسة وتطبيقاتها

توفر هذه الدراسة فهمًا أعمق لآليات الإدراك اللغوي، وهو ما قد يساهم في تطوير تقنيات مساعدة للأشخاص الذين يعانون من اضطرابات في التواصل مثل فقدان القدرة على الكلام، كما يمكن أن تساعد في تحسين نماذج الذكاء الاصطناعي، مما يجعلها أكثر كفاءة في معالجة اللغات الطبيعية.

إضافة إلى ذلك، فإن هذه النتائج تعزز إمكانية تطوير واجهات دماغ-حاسوب، وهو مجال قد يمكّن الأشخاص من التحكم في الأجهزة باستخدام الإشارات العصبية فقط.